مقال

مقال: كانت الكلمة .. فكان الوعي

لن أخوض في الجدلية الواقعة عند اللسانيين وفلاسفة اللغة عن العلاقة بين اللغة والفكر, وإنما سأنطلق منطلق “اللغة مرآة العقل”, أو كما عرفها البنيويون “قدرة ذهنية مكتسبة, يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة يتواصل بها أفراد مجتمع ما”, أي باعتبار اللغة طريقة لتنظيم العالم ونقله إلى رموز اعتباطية بمسوتياته المتعددة من وحدات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية, ولن أتطرق كذلك إلى المفاضلة بين لغة وأخرى أو إلى اللغة على الصعيد الاجتماعي العام, وإنما على الصعيد الشخصي محاولاً توضيح علاقة الإمكانيات اللغوية الفردية بالوعي.

لو أن رجلاً عاش طوال حياته في صحراء قاحلة, تخلو تماماً من وجود أشجارعليها, لكنه يسمع وصفاً دقيقاً عنها لمن يأتونه من بلدان ملؤها أشجار, هل سيتمكن هذا الرجل من أن يتعاطى ويتفاعل مع الشجرة؟ أو هل سيتمكن من تكوين أفكار مركبة بناءً على المعنى الكلي للشجرة في ذهنه؟ الإجابة ستكون حتماً نعم, كما نتعاطى مع صور الشخصيات الأسطورية مثلاً بمجرّد وصفها في مفردات معينة, إذن يضح لنا أن استحضار فكرةٍ ما في عقولنا بحاجة ماسة إلى لغة بمستوياتها المتعددة, بمعنى أنه لن يقدر أحد على استيعاب مسألة فلسفية ما لم يكن ملماً بالمفردات والتراكيب النحوية والصرفية التي تستدعي الفكرة بعمقها المنشود, لذلك فإن فهمنا لبعض القضايا المهمة والتي تتصل اتصالاً وثيقاً بتعميق الوعي الإنساني وتعاطينا معها كالقضايا المجردة من التجربة العملية مصدراً للمعرفة مثل الحرية وطبيعة الوجود والإنسان والحياة, وإن تكن خارج نطاق قدرتنا الذهنية تصبح ألغازاً ما لم نقدر أن نجد المفردات الدالة عليها, تماماً كما أن الشجرة تبقى لغزا لرجل الصحراء لو لم يفك مدلول الشجرة عن طريق استحضار مفردات دالة عليها.

ونتيجة لهذه العلاقة نجد أن ثمة أناساً ممن تعطلت مداركهم الفكرية وانطبقت العوالم التي تسبح في عقولهم على بعضها البعض, لأنهم فقدوا ما يتكفّل باستحضار الأفكار القادرة على توسيع رؤاهم ونظرتهم إلى العالم, ولهؤلاء تجليات عديدة, منهم من اكتفى بلغةٍ تكاد مفرداتها تتآكل, ففقدت قدرتها على معاصرة الوعي الحديث, وهذه الطريقة لا تعدو إلا أن تكون ترديداً ببغائياً وبلاهةً فكرية, وتجلٍ آخر هو من يكتفي بتطبيقات رديئة من اللغة ذات تركيبات محدودة جداً لا تكفي لصناعة فكرة عميقة واحدة ومنها اللهجات العامة, ولا أقصد استخدام اللهجات العامة بحد ذاتها, بل الاستغناء التام عن اللغات التي تفسح للوعي مجالاً أكبر للغوص في عمق الأفكار من خلال مفردات دقيقة وتراكيب معقدة تعتني كل الاعتناء بدقة المعاني وجودتها, يبدو ذلك في صنف من الكتب التي انتشرت مؤخراً باللهجة العامية من روايات وتنمية بشرية مزعومة، على الرغم من الرواج التي تلقاه عند نظرائهم من القرّاء ذوي المستوى الفكري المتدني, من الواضح أننا نمر بنماذج غزيرة من أصحاب الإعاقات اللغوية, فكلما أراد أحد أن يدلي بدلوه يلوح انحسارهم الفكري وتتمثل حماقتهم, بل يحدث أحياناً أن تصادف متكبراً منهم ويصر أن يناقش مسألة ما, فتعترضه إمكاناته اللغوية عن فهم ما يعرض له من أفكار فتبدو له رموزاً غامضة غير قادر على فهمها وبالتالي إدراكها, لذلك يقال بأن الأحمق إذا فكّر أو تحدث فضحَ نفسه.

ليس من المصادفة أن يرى التطوريون (أصحاب نظرية التطور الدارويني) أن تفسير نشوء الوعي الإنساني متعلّق بنشأة القدرة على الاتصال من خلال لغة, ومن وجهة النظر اللاهوتية خاصةً المحدثين منهم من أراد أن يقارب نظرية التطور بنظرية الخلق, ربط مفهوم “الكلمة” أو اللوجوس في سفر التكوين بالمرحلة الفاصلة التي كان فيها الإنسان إنساناً, وجديرٌ بالذكر أن مفهوم “الكلمة” كما جاءت في الإنجيل تمتد جذورها من مفردة “لوجوس” والتي تعني في اليونانية العقل والوعي بمنأى عن الاختلافات في تأويلات “الكلمة”, إلا أن في النهاية هذه “الكلمة” تقود حسب المنظور الإنجيلي إلى الله, على ذات الغرار يمكن من المنظور الإسلامي تأويل “وعلّم آدم الأسماء كلها” بنشأة اللغة عند الإنسان والتي وضعت حداً فاصلاً بينه وبين الكائنات الأخرى بدءاً من أبينا آدم, وعلى طريقة الرأي الديكارتي القائل: ” القدرة على استخدام الإشارات اللغوية للتعبير عن الأفكار المكونة بحرية تشكل الفارق الحقيقي بين الإنسان والحيوان”, أي أننا هنا نتحدث عن الجزء الرئيسي الذي يجعلنا بشراً وهو اللغة, بمعنى أن الإنسان مجبولٌ على اكتساب اللغة ومهيّء خلقةً أن يتعلم هذه العلامات الاعتباطية ليكوّن من خلالها فكراً ووعياً, من الواضح أن اللغة هنا لا تعني التفتيش في المعاجم المهترئة واستحضار أسماء السيف الثلاثمائة أو أسماء البعير اللامتناهية, كذلك ليست الغاية في كشف أسرار ودهاليز النحو العربي والبحث في المجلدات الضخمة, بل أن يتعلم الإنسان من أي لغة كانت ما يتيح له أن يفكر بحق كي يكون إنساناً بحق.

Leave a comment