Uncategorized

في مدح احتقار الذات

ربما أول ما يطرأ في ذهن القارئ عند المرور بعبارة “احتقار الذات” هو التواضع، وهذا أبعد ما يكون عما أقصده، إذ أن أول سؤال وجب طرحه هو; احتقار الذات إزاء ماذا؟ أو بأي معيار؟ ففي مفهوم التواضع تكون المقارنة مع الذوات الأخرى المحيطة، عندما يرى امرؤ ما أنه أقل شأناً من الآخرين، وقد يعرف يقيناً أنه ليس كذلك، ما يجعله يظهر شعوراً بتقبل الناس والحنان إليهم، الذي يمكن رده إلى حب الذات أولاً والرغبة في إرضائها عن طريق إبداء هذا النوع من التواضع، وهنا يقع الاختلاف بين المفهومين. أما احتقار الذات فإنه التابع لسلسة من الأسئلة التي تطرحها الذات على نفسها بمنأى تماماً عن الآخرين، الأسئلة التي تطرح إزاء الوجود بعينه، كـ ما الخير؟ ما الشر؟ لماذا أعيش؟ من أنا؟ أو هل أنا أنا؟ وما يعنيني هو السؤالان الأخيران.

الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها معرفة المرء نفسه هي اللغة، اللغة ذاتها المضللة، حتى لو كان المرسل والمتلقي هما الذات إلى الذات، فإن التضليل يكون على أشده ، والتضليل هنا متعلق بالكلمات التي تشكل لكل ذات معانٍ ومثلا عليا خاصة، فإن افترضنا أن هناك شخصاً قادراً على بلوغ الاتساق المطلق لسلوكياته مع مثله العليا الخاصة، أي أن يعي دوره جيداً ويؤديه بإتقان، فإن السؤال يكون هنا، إلى أي مدى يكون الإنسان راضياً عن ذاته؟ وباعتبار تساؤل “من أنا؟” عثرة نحو الطريق إلى هذا الرضى، فإن أولئك الذين يصحون كل صباح، يغيرون أثوابهم وقمصانهم ويقرأون الجرائد، ويمرون على قول إليوت “نحن الرجال الفارغون .. يا لنا من قطعة رأس يملؤها القش” كأنهم يقرأون إحدى عبارات الإعلانات المبتذلة، لا يسألون هذا السؤال طالما يحمل كل واحد منهم بطاقة هوية في جيبه، مكتوبٌ عليها عنوان وظيفة ما يشغلها، ويملكون من الأهداف المستقبلية ما يكفي لذلك، كشراء بيت، أو اقتناء سيارة، دون أن يخامرهم أدنى شك في “من هم؟” إذ أنهم اكفتوا بالتوقف عند الكلمات التي شكلت لهم وجودهم. وهم ليسوا بذلك ممثلين أو متظاهرين، بل مقتنعين تمام الإقتناع بتطابق مثلهم مع ذواتهم. ولكن أليس هو الأمر نفسه بالنسبة للمسجون الذي استسلم لسجنه، أو للحيوانات التي لم تذق طعم الحرية في أقفاصها؟ وعندما تشير إليهم بهذا المعنى، فإنهم يجيبونك ضمنياً “الحرية مم؟ إننا نحن السجن” حيث سؤال “من أنا؟” يكون بشكل ما لحظة استيقاظ غير مرغوب بها، والطريقة الوحيدة للهروب من تجرع سم هذا السؤال هو الاكتفاء بالكلمات واللغة وبطاقات الهوية، مهما بدل شكله وأثوابه، إلى درجة استعداد تام لتزييف كل ما يعارض ويناقض ذلك فيه، وإن أدى إلى التعامي والتصامم عن الأمور التي يراها ويسمعها في نفسه، الحالة ذاتها التي تدفع إحدى البغايا الحديث عن الدين والله، أو شاعراً أحمقاً يصر على نشر قصائده مهما بلغه من الناس أنها ركيكة، طالما يبقى المرء راضياً عن نفسه.

أما لحظة اليقظة، التي يبدأ فيها المرء باحتقار ذاته، أشبه بحالة رجل المبيعات والتسويق في رواية “الانسماخ – كاكفا” الذي صحا من نومه ليجد نفسه صرصاراً، عاجزاً عن القيام من السرير وفتح باب غرفته، ما اضطر رئيس عمله لطرده من العمل، وأصبح منبوذاً من عائلته حتى مات وهو يحاول أن يبين أمراً جوهرياً في حالته، وهي انعدام القدرة على اتساقه مع كونه مسوقاً تجارياً من يضطر إلى الحيلة والنصب للبيع، وكونه صرصاراً ليست إلا حالة ذهنية معقدة لإعلان ثورة على ذاته تحت مبدأ “من أنا؟” ولا شك أن الطبيعة تنبذ هذه الثورة، لكن لا يمنع عدم تقبل الطبيعة لهذه الحالة أن يكون ثمة غبطة وشعور بالنشوة، تلك الناشئة عن شهوة الحرية التي تجعل الفرد فذاً، إذ أن الأمر يتجاوز حالة العجز إلى لذة التفكير.
ولا تكون المسألة في قطبين أقصيين، إما سجناً محضاً أو يقظة محضة، رضى كاملاً أو احتقاراً مطلقاً للذات، إن هذا الشعور ينعس ويضجر، يعمر آمالاً وأهدافاً أحياناً، ويلقيك أمام حقيقة لاجدوى هذه الآمال والأهداف أحياناً أخرى. ولا يعني ذلك أن محتقر الذات لا يشعر بالقدرة أو المهارة كمن يقنع بذاته، بل لا يعي جدواها، أي أنه يفكر أكثر من أن يفعل ما يجعله يثور ضد نفسه، ليس أحمق أو سوداوياً أو مجنوناً بل قادراً على فهم ذاته فالأشياء من حوله.

كي أكون أكثر صراحة، بعيداً عن الإطناب والإطالة و”الفلسفة” والكلام الزائد، فإن ما أوحى لي بكل هذا، عندما قال لي صديقي بالحرف ” لماذا تتعالى على طبعك؟” وكان يقصد حب الظهور أمام الجمهور وشهوة سماع التصفيق ولو كان تصنعاً، عندها سألت نفسي السؤال الآتي “ما الذي يفصل طبعي عن آرائي وكلامي؟” ووجدت نفسي أني أنجر على الدوام نحو رغبة في الرضى عن الذات من خلال سلوكيات معينة. لكن هل يعني هذا كونه أمراً سلبياً بذاته؟ ولا أظن يمكن فهمها إلا من خلال فهم طبيعتنا البشرية، الطبيعة نفسها التي يرفضها محتقر ذاته، التي تشتهي فيها النفس القطيع، تقبلهم ومديحهم، إلى أن يصل إلى وعي بوهن مطابقة الصفات الممدوحة بواقعه، أي الكلام الذي يقنع المرء نفسه به بحقيقة وجوده أو من يكون حقاً، ويبدأ الشعور باحتقار الذات.
ما الحل؟ ليس هنالك حل، هي المعاناة نفسها منذ بدء البشرية، قد يكون وجودك كله خطأً، لكن لا يهم. الموضوع بات مكروراً، عش فقط .. سواء احتقرت ذاتك أو رضيت، الأمر متروك للسجية، عش مهما كانت الحياة.

Leave a comment