مقال

حب الظهور .. على نحو أفضل

IMG_9374

عندما ترى أحمق يحوم حول وسائل التواصل يهرف، ويثرثر، يظهر كل ما ينفع ولا ينفع أيضاً، تراه شاعراً، ناقداً، فيلسوفاً …إلخ وربما يتصنع هذا ويكذب في ذاك، فلا تستغرب. عندما ترى من يملأ حساباته صوره الشخصية بلا معنى، يشارك كل ما يعني ولا يعني من حياته الشخصية التي تثير إعجاب جمهور ما، لا تستغرب. وغيرها الكثير من الحالات التي في كل مرة نلقي عليها نظرة فاحصة نجد أن صاحبها لا يبحث عن شيء سوى حب الظهور. ما يمكننا بطريقة سهلة انتقاد أولئك الذين يشغلون أنفسهم بالتفتيش عن جمهورو متابعين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن في ذات الوقت، عند إمعان النظر في أنفسنا نجد أن ذات الدافع يسيطر علينا في حياتنا اليومية، عندما يرتدي الفرد منا أقنعة تختلف حسب أمزجة من يتعامل معه، ولو تفاوتت الدرجة، فإلى أي مدى يعتبر حب الظهور صحياً؟

حب الظهور .. حاجة إلى الانتماء

“الإنسان، حيوان اجتماعي” عند النظر إلى عبارة أرسطو يتضح اعتبار الإنسان كائن منتم، بحاجة إلى الانتماء، الحاجة التي يمكن ردها إلى رغبة نفسية أساسية في طبيعة الإنسان، غير واعية في أساسها وقد تكون واعية في أشكال معينة، لا يمكن تجاوزها، ما يمكن أن ينتج عواقب وأضرار في حال عدم تلبيتها، والتي يمكن تصويرها بشكل عام في حاجة الإنسان أن يتقبله الآخر وأن يكون جزءاً في مجتمع ما -بغض النظر عن ماهية هذا المجتمع- ليحقق من خلاله احترام الآخرين، وبالتالي تقدير الذات.

get-1-2011-n9uhako8

 في هرم ماسلو، تعتبر حاجة الانتماء كأحد الحاجات الأساسية التي تلي الحاجات الفسيلوجية والحاجة إلى الأمان، في جزئي الحاجات الاجتماعية والحاجة إلى التقدير. كما اعتبرها علماء نفس آخرون -مثل روي بومستر ومارك ليري- محركاً أساسياً لتصرفات كثيرة عند الإنسان كرغبة السيطرة والقوة وتأسيس العلاقات الاجتماعية والشهرة ..إلخ، على غرار محرك الجنس عند فرويد.

 ومن وجهة نظر علماء النفس التطوريين، فإن حاجة الانتماء تنحدر من قدرة الإنسان القديم على النجاة عند انتمائه لمجموعة تقيه من مخاطر الطبيعة، وتساعده على التأقلم مع متطلبات الحياة أكثر كتوفير الطعام، والحماية، والجنس. وبالتالي فإن رغبة الحب والانغماس في المجتمع تطورت إلى حاجة.

إذاً، يمكن القول أن حاجة الانتماء طبيعية عند الكائن البشري، وينتج عن فقدانها أو عدم تلبيتها أعراض نفسية وقد تصل إلى جسدية. إذ يرتبط عدم قدرة الفرد على الانتماء بتدني قدرته على تقدير ذاته، الذي بدوره يعد عاملا رئيسيا في ظهور الاكتئاب. كثير من الدراسات أثبتت ارتباط فقدان الانتماء بمظاهر الاكتئاب وما ينتج عنها، كالشعور بالوحدة والرغبة في الموت أو الفناء، فبالنسبة لـ العالمين ليري وبومستر فإن كل رغبة في الموت عند أي فرد يمكن إرجاعها إلى فشل في الانتماء.

حب الظهور … وسيلة دفاع نفسية

ويجدر ذكر أن حدة رغبة الانتماء قد لا تكتفي بكونها حاجة إنسانية كما يشرحها ماسلو مثلاً، بل قد تتطور إلى وسيلة دفاع نفسية، مرتبطة بنشأة المرء وعلاقته بأسرته أو المجتمع الذي نشأ فيه ونظرتهم إليه، ومدى تلبيتهم لحاجته في الحصول على رضاهم طفلاً أو مدى سخريتهم من غبائه وحمقه، أو كلمة ثناء أو تهكم من معلم في مدرسة، قبول أو رفض فتاة فترة المراهقة، مطابقته أو مخالفته معايير المجتمع، كلها عوامل تتحكم في حدة حاجته للانتماء. إضافة إلى طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، إن كان مجتمعاً جماعياً أو فردياً، رأس مالياً أو اشتراكياً ، علمانياً أو دينياً ..إلخ فقد يصور الانتماء بأشكال معتادة كالاكتفاء بالقبول من العلاقات الإجتماعية بالأسرة والأصدقاء، والقبول الجنسي من العلاقات العاطفية والانجذاب المتبادل. أو الإذعان إلى سلطة سياسية، أو جماعة ما، أو دين ومعتقد، والحصول على القبول من أفراد تلك الجماعة بمجرد تقلد الفرد لأوامر وتقاليد ذلك المجتمع…إلخ

وقد يكون بأشكال أكثر تعقيداً حسب ظروف ثقافية واقتصادية واجتماعية أو على مستوى نفسي. فتأثير المتطلبات العصرية التي تفرضها الأنظمة المعاش فيها يحدد كيف يمكن للفرد أن ينتمي بشكل ما، فأحد نظريات الإعلان والإعلام التي ترصد سلوك المستهلك في المجتمع الرأس مالي، تفضي إلى أنه يمكن قيادة سلوك المستهلك نحو إقناعه بضرورة شراء أو استهلاك منتج ما للحصول على قبول من الآخرين والحب فالانتماء، كالتوجه لشراء العلامات التجارية العالمية باهضة الثمن، أو ملابس بشكل معين. وقد تتعدى المسألة الشركات التجارية إلى ما يتعرض له المستهلك أو الفرد للثقافة بشكل عام كالإعلام التقليدي في السينما والتلفاز التي تفرض عليه معايير معينة للجمال والأخلاق وبعض السلوكيات، التي ما إن يمتصها العقل اللاواعي يجد المرء نفسه مقبلاً على الانخراط فيها. وهكذا حتى الإعلام الحديث في وسائل التواصل التي تفرض على المرء طريقة معينة أو دوراً معيناً يؤديه كي يحصل على رضى الجمهور. فتماماً كما يرتدي المرء أقنعة في حواراته العادية الاجتماعية اليومية كالكذب على الآخرين، التصنع والرياء لإقناع الآخرين بما ليس عليه الفرد. يمكن أن توجد كوجبات سريعة للحصول على اهتمام الآخرين وقبولهم وبالتالي محاولة لتحقيق الانتماء.

حب الظهور … في عصرنا

هنا يمكن ربط مفهوم الانتماء بصلب الموضوع، فكون هذه الحاجة حتمية وطبيعية ولاواعية عند الإنسان، ولطبيعة المجتمع الاستهلاكية التي تحتم معايير معينة للحصول على قبول الآخرين، وتوفر التكنولجيا في عصرنا عند كل فرد، ترغّب فيها المرء في الحصول على شهرة أو تصفيق جماهيري للحصول على رضا جاهز. فإن حب الظهور شهوة لا يمكن إغفالها عند أي أحد، خصوصاً حال تعرض الأنا “الإيجو” لضرر مسبق. فقد ربط العالم بوميستر مفهوم “ضعف الأنا” بتراجع قدرة الفرد على مقاومة المعايير المتاحة التي تعطيه معنى ما لتحقيق ذاته. ولأن كل فرد في المجتمع معرض لما يمكن أن يهز تقديره لذاته، إضافة إلى الحاجة الطبيعية في الفرد، فإن اللجوء إلى المعايير التي يفرضها المجتمع واردة إلى حد بعيد. ولتوفر أساليب حديثة تعطي للشخص القابلية في أن يعرض نفسه في وسائل متاحة وسهلة عند كل فرد، فإن حب الظهور باتت حاجة لا يمكن إغفالها عند أي شخص، ولا يمكن انتقادها لمجرد تواجدها، أي لمجرد رغبة الشخص بالظهور وحبه.

وفي نفس الوقت، باعتبار السلوك الناتج عن رغبة في الانتماء كحب الظهور رغبةً لاواعية كأحد آليات الدفاع النفسية التي تنتج عن صراعات بين الهو والأنا، الهو بحاجة للانتماء والأنا يدبر الوسيلة الأسهل بينما تقوم الأنا العليا بتبرير ذلك، إن اعتمدنا هذا التصنيف للنفس الإنسانية. والتبرير هنا هي النقطة الجوهرية في سبيل توظيف حب الظهور إلى ما هو أسمى من مجرد تلبية حاجة. فقد لا يعي أحد ما أن اندفاعه إلى وسائل التواصل الاجتماعي وسعيه الدؤوب كي يحوز على تقدير ما وإعلاء شأن ذاته، الذي قد يؤدي إلى ارتكاب حماقات لمجرد الظهور، خصوصاً أنها مسألة تتعلق أساساً بالتماشي مع رغبات الجمهور، الرغبات العاطفية سواء في الضحك أو السخرية، أو إعادة تدوير أفكار ومعتقدات المجتمع مهما كانت غبية للحصول على اقتناهم وتأييدهم.

وهنا يتجلى التعارض بين حب الظهور الذي يكون نتيجةً لثقافة مجتمع مهما كانت بالية، وحب ظهور صانعاً لثقافة جديدة ومصلحة، فالوعي بأن ليس كل حب ظهور متعلقاً بالميل نحو الجمهور أمر ضروري ومهم، وإنما بصنع ميول الجماهير بدلاً من محاباتها، والرقي بأذواقهم ومعارفهم. وربما يقال أن هذا يناقض حب الظهور في حال معارضته لميل الجماهير بالضرورة، ولكن في نفس الوقت، يصنع له جمهوراً خاصاً، يرتقون معه حيثما يرتقي، أوفياء بوفاء عطائه وإنتاجه، والذي يحقق له نوعاً من الانتماء وبالتالي يلبي له حب الظهور ولكن على نحو أفضل.

للاستزادة:

https://en.wikipedia.org/wiki/Belongingness

http://www.consumerpsychologist.com/

http://study.com/academy/lesson/impression-management-in-sociology-theory-definition-examples.html#lesson

Click to access baumeisteretal1998.pdf

Leave a comment